فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

(107) سورة الماعون:
نزولها: مكية.
نزلت بعد سورة التكاثر.
عدد آياتها: سبع آيات.
عدد كلماتها: خمس وعشرون كلمة.
عدد حروفها: مائة وخمسة وعشرون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
جاء في سورة (قريش) تنويه عظيم بشأن الشّبع من الجوع، والأمن من الخوف، حيث لا حياة بغير طعام، ولا طعم لحياة بغير أمن! وجاءت سورة (الماعون) لتضرب- والحديد ساخن- كما يقولون- على أوتار هذه القلوب الجافية، ولتهزّ تلك المشاعر الجامدة، التي عرفت طعم الشّبع بعد الجوع، وذاقت هناءة الأمن بعد الخوف، حتى تندّ بالمعروف، وتسخو بالخير، قبل أن تنسى لذعة الجوع، ورعدة الخوف.
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدين}.
خطاب للنبى، صلوات اللّه وسلامه عليه، ولكل من هو أهل للخطاب، ولتلقّى العبرة والعظة منه..
والاستفهام هنا يراد به إلفات الأنظار والعقول إلى هذا الإنسان الذي يكذب بالدين.. إنه إنسان عجيب، لا ينبغى لعاقل أن يفوته النظر إلى هذا الكائن العجيب وتلك الظاهرة النادرة! ففيه عبرة لمن يعتبر، وفيه ملهاة لمن يريد أن يتلّهى..
والدين: هو الدينونة، أي الحساب والجزاء في الحياة الآخرة..
والذين يكذبون بالدينونة، والبعث، والحساب، والجنة، والنار، لا يؤمنون باللّه، وإن آمنوا به فهم لا يوقرونه، ولا يعرفون قدره. ومن هنا فهم لا يعلمون حسابا للقاء اللّه، ولا يقدّمون شيئا لليوم الآخر، فإنّ من خلت نفسه من شعور الثواب أو العقاب من الجهة التي يتعامل معها، فإنه لا يلقاها إلا في تراخ وفتور، وعدم مبالاة.
وقوله تعالى: {فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليتيم وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ}.
الفاء واقعة في جواب شرط مقدر، يدل عليه الاستفهام في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدين}؟ أي إذا لم تكن رأيته، فها هو ذا، فانظر إليه، وشاهد أحواله، فهو ذلك الذي يدعّ اليتيم.. والإشارة مشاربها إلى هذا الذي يكذب بالدين.. إنه ذلك الذي {يَدُعُّ اليتيم} أي يقهره، ويذله، وينزع عنه لباس الأمن والطمأنينة إذا وقع ليده، وعاش في ظله.. إن اليتيم ضعيف، عاجز، أشبه بالطير المقصوص الجناح، يحتاج إلى اللطف، والرعاية، والحنان.. فإذا وقع ليد إنسان قد خلا قلبه من الرحمة، وجفت عواطفه من الحنان والعطف- كان أشبه بفرخ الطير وقع تحت مخالب نسر كاسر، فيموت فزعا وخوفا، قبل أن يموت تمزيقا ونهشا..
وقوله تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ}.
أي لا يدعو إلى إطعام المسكين، ولا يجعل من رسالته في الناس إطعام الجياع.. فإن من لا يحمل همّ الجياع، ولا يدعو الناس إلى إطعامهم، لا يجد من نفسه الدافع الذي يدفعه إلى إطعامهم من ذات يده.. ذلك أن الذي يعرف عنه في الناس أنه يحضّ على هذه المكرمة وينادى بها فيهم- يستحى أن يدعو إلى فعل ولا يفعله..
وإنك لن تجد بخيلا أبدا يدعو إلى الإحسان، لأن كلمة الإحسان تفزعه، حتى لو نطق بها زورا ويهتانا.. فإذا دعا داع إلى الإحسان كان معنى هذا أنه يمكن أن يكون في المحسنين يوما ما.. وهذا هو السرّ في احتفاء القرآن الكريم بالحضّ على فعل المكارم، فمن حضّ على مكرمة، وجعلها دعوة له، كان قمينا بأن يكون من أهلها عملا، بعد أن كان من دعاتها قولا..
وإذا جاز لإنسان أن يدعّ اليتيم، ويزعج أمنه، أو يضن على جائع بلقمة يتبلغ بها- وهو غير جائز، ولا مقبول على أي حال- فإنه لا يجوز ولا يقبل أن يكون ذلك من أحد من قريش، الذين أطعمهم اللّه من جوع، وآمنهم من خوف، من بين العرب جميعا..
إنهم يشهدون ذلك في كل لحظة من لحظات حياتهم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (67: العنكبوت).
وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ}.
مناسبة هذه الآيات لما قبلها:
هي أن الصلاة في حقيقتها نور يضيء ظلام القلوب، ويجلّى غشاوة النفوس، لأنها أوثق الصلات التي تصل العبد بربه، وتقرّبه منه، وتعرضه لنفحات الرحمة، فتشيع في كيانه الحب والحنان، حيث يضفيهما على عباد اللّه، وخاصة الضعفاء والفُقراء، الذين وصّى اللّه سبحانه وتعالى يهم الأقوياء والأغنياء، واسترعاهم إياهم.
والصلاة لا تثمر هذا الثمر الطيب، ولا تؤتى هذا الأكل الكريم، إلا إذا كانت خالصة للّه، يشهد فيها المصلى جلال خالقه، وعظمة ربه.. وذلك لا يكون حتى تصدق النية، وتخلص الرغبة، ويعظم اليقين في لقاء اللّه، والثقة في أنّ من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
والذين يسهون عن الصلاة، أي يغفلون عنها، ولا يشغلون أنفسهم بها، وبانتظار أوقاتها ليهيئوا أنفسهم لها، ويعدوها للقاء اللّه في محرابها- هؤلاء ليسوا مصلين في الحقيقة، وإن ركعوا، وسجدوا، لأن صلاتهم تلك إنما تقع عفوا، وتجيء حسب ما اتفق، كأن يكونوا في جماعة، وقد أذّن المؤذن للصلاة، فيمنعهم الحياء، أو الخوف من قالة السوء فيهم أن تصلى الجماعة ولا يصلون، أو أنهم يصلون في الأوقات التي لا يشغلهم فيها شيء، ولو كان تافها.
أما إذا شغلهم عمل، أو لهو، فلا يذكرون الصلاة، ولا يؤثرونها على ما بين أيديهم من عمل، أو لهو، حتى لكأن الصلاة نافلة من نوافل الحياة، لا قدر لها ولا وزن! فهذا هو السهو، وهؤلاء هم الساهون عن الصلاة الذين توعدهم اللّه سبحانه وتعالى بالويل، لأنهم يراءون الناس، وينافقونهم أو ينافقون أنفسهم بها، وهم لهذا لا ينتفعون بالصلاة، فلا يأتمرون منها بمعروف، ولا ينتهون بها عن منكر..
وقوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ}.
الماعون: من العون، وهو ما يجد فيه الإنسان عونا على ما يلمّ به من حاجة وعوز..
والمراد بالماعون هنا الزكاة، لأنها أوسع الأبواب، وأجداها في إسداء العون، للفقير، والمسكين، وابن السبيل..
فالويل إنما يتجه الوعيد به هنا، إلى الذين لا يقيمون الصلاة على وجهها، ولا يؤدّون الزكاة على تمامها وكمالها، طيبة بها أنفسهم، منشرحة بها صدورهم..
فهم يمنعون الزكاة ما استطاعوا منعها، ويؤدونها إذا قام عليهم سلطان قاهر، يرصد أموالهم، ويستخرج منها زكاتهم، كما يستخرج رجال الأمن المال المسروق من جيب السارق!! وفى قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}- وفى جعل هاتين الكلمتين آية ذات دلالة مستقلة، مستوفية أركان الجملة المفيدة من مبتدأ وخبر- في هذا إعجاز من إعجاز البلاغة القرآنية، حيث تهزّ هاتين الكلمتين أقطار النفس، وتستثير دواعى الفكر، حين يجد المرء نفسه بين يدى هذه الحقيقة الغريبة المذهلة:
(ويل للمصلين)!! وكيف يكون الويل للمصلين، والصلاة عماد الدين، وركنه المتين، وعليها يقوم بناؤه، وبها تشتد أركانه، وتثبت دعائمه؟ أهذا ممكن أن يكون؟ ويجيء الجواب نعم! وكيف؟ إنها صلاة الساهين عنها، المستخفين بها، الذين يأتونها رياء ونفاقا.. وإن الذين لا يؤدون الصلاة أصلا، ممن يؤمنون باللّه، لهم أحسن حالا، من هؤلاء المصلين المرائين، لأن الذين لا يؤدونها أصلا، لم يتعاملوا بالصلاة بعد، ولم يزنوها بهذا الميزان البخس، ولو أنهم صلّوا فقد يقيمونها على ميزان يعرف قدرها، ويبين عن جلالها، وعظمة شأنها.. أما الذي يصلى ساهيا عن الصلاة متغافلا عنها، مستخفّا بها- فقد بان قدر الصلاة عنده ووزنها في مشاعره.. وهو قدر هزبل، ووزن لا وزن له، ومن هنا كان جزاؤه هذا الوعيد بالويل والعذاب الشديد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدين (1)}
الاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المكذبين بالجزاء، وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع.
فالتعجيب من تكذيبهم بالدين وما تفرع عليه من دَعّ اليتيم وعدم الحضّ على طعام المسكين، وقد صيغ هذا التعجيب في نظم مشوِّق لأن الاستفهام عن رؤية من ثبتت له صلة الموصول يذهب بذهن السامع مذاهب شتى من تعرف المقصد بهذا الاستفهام، فإن التكذيب بالدين شائع فيهم فلا يكون مثارًا للتعجب فيترقب السامع ماذا يَرِد بعده وهو قوله: {فذلك الذي يدع اليتيم}.
وفي إقحام اسم الإِشارة واسم الموصول بعد الفاء زيادة تشويق حتى تقرع الصلة سمع السامع فتتمكن منه كَمَالَ تَمكُّن.
وأصل ظاهر الكلام أن يقال: أرأيت الذي يكذب بالدين فَيدُع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين.
والإِشارة إلى الذي يكذب بالدين باسم الإِشارة لتمييزه أكملَ تمييز حتى يتبصر السامع فيه وفي صفته، أو لتنزيله منزلة الظاهر الواضح بحيث يشار إليه.
والفاء لعطف الصفة الثانية على الأولى لإفادة تسبب مجموع الصفتين في الحكم المقصود من الكلام، وذلك شأنها في عطف الصفات إذا كان موصوفها واحدًا مثل قوله تعالى: {والصافات صفًا فالزاجرات زجرًا فالتاليات ذكرًا} [الصافات: 1 3].
فمعنى الآية عطفُ صفتي: دَع اليتيم، وعدم إطعام المسكين على جزم التكذيب بالدين.
وهذا يفيد تشويه إنكار البعث بما ينشأ عن إنكاره من المذام ومن مخالفة للحق ومنَافيًا لما تقتضيه الحكمة من التكليف، وفي ذلك كناية عن تحذير المسلمين من الاقتراب من إحدى هاتين الصفتين بأنهما من صفات الذين لا يؤمنون بالجزاء.
وجيء في {يكذب}، و{يدُعّ}، و{يَحُضّ} بصيغة المضارع لإفادة تكرر ذلك منه ودوامه.
وهذا إيذان بأن الإِيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة حتى يصير ذلك لها خلقا إذا شبت عليه، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتياج إلى أمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وآمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النَّكراء.
والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة، فنزّلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصَر المشاهد.
وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي بعد الراء من {أرأيت} ألفًا.
وروى المصريون عن ورش عن نافع إبدالها ألفًا وهو الذي قرآنا به في تونس، وهكذا في فعل (رأى) كلما وقع بعد همزة استفهام، وذلك فرار من تحقيق الهمزتين، وقرأه الجمهور بتحقيقهما.
وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي بعد الراء في كل فعل من هذا القبيل.
واسم الموصول وصلتُه مراد بهما جنس من اتصف بذلك.
وأكثر المفسرين درجوا على ذلك.
وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقيل: في الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل: في عمرو بن عائذ المخزومي، وقيل: في أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه بسبب أنه كان يَنحر كل أسبوع جَزورًا فجاءه مرة يتيم فسأله من لحمها فقرعه بعصا.
وقيل: في أبي جهل: كان وصيا علي يتيم فأتاه عريانًا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعًا شنيعًا.
والذين جعلوا السورة مدنية قالوا: نزلت في منافق لم يسموه، وهذه أقوال معزو بعضها إلى بعض التابعين ولو تعينت لشخص معين لم يكن سبب نزولها مخصِّصًا حكمَها بمن نزلتْ بسببه.
ومعنى {يدع} يدفع بعنف وقهر، قال تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعًا} [الطور: 13].
والحض: الحث، وهو أن تطلب غيرك فعلًا بتأكيد.
والطعام: اسم الإِطعام، وهو اسم مصدر مضاف إلى مفعوله إضافة لفظية.
ويجوز أن يكون الطعام مرادًا به ما يطعم كما في قوله تعالى: {فانظر إلى طعامك وشرابك} [البقرة: 259] فتكون إضافة طعام إلى المسكين معنوية على معنى اللام، أي الطعام الذي هو حقه على الأغنياء ويكون فيه تقدير مضاف مجرور بـ: (على) تقديره: على إعطاء طعام المسكين.
وكنى بنفي الحضّ عن نفي الإِطعام لأن الذي يشحّ بالحض على الإِطعام هو بالإِطعام أشح كما تقدم في قوله: {ولا تحاضون على طعام المسكين} في سورة الفجر (18) وقوله: {ولا يحض على طعام المسكين} في سورة الحاقة (34).
والمسكين: الفقير، ويطلق على الشديد الفقرِ، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إنما الصدقات للفُقراء والمساكين} في سورة التوبة (60).
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
موقع الفاء صريح في اتصال ما بعدها بما قبلها من الكلام على معنى التفريع والترتب والتسبب.
فيجيء على القول: إن السورة مكية بأجمعها أن يكون المراد بالمصلين عينَ المراد بالذي يكذب بالدين، ويدُعّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فقوله: {للمصلين} إظهار في مقام الإِضمار كأنه قيل: فويل له على سهوه عن الصلاة، وعلى الرياء، وعلى منع الماعون، دعا إليه زيادة تعداد صفاته الذميمة بأسلوب سليم عن تتابع ستِّ صفات لأن ذلك التتابع لا يخلو من كثرة تكرار النظائر فيشبه تتابع الإِضافات الذي قيل إنه مُناكد للفصاحة، مع الإِشارة بتوسط ويل له إلى أن الويل ناشئ عن جميع تلك الصفات التي هو أهلها وهذا المعنى أشار إليه كلام (الكشاف) بغموض.
فوصفهم بـ: {المصلين} إِذَنْ تهكم، والمراد عدمه، أي الذين لا يصلون، أي ليسوا بمسلمين كقوله تعالى: {قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 43، 44] وقرينة التهكم وصفهم بـ: {الذين هم عن صلاتهم ساهون}.
وعلى القول بأنها مدنية أو أن هذه الآية وما بعدها منها مدنية يكون المراد {بالمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} المنافقين.
وروَى هذا ابنُ وهب وأشهبُ عن مالك، فتكون الفاء في قوله: {فويل للمصلين} من هذه الجملة لربطها بما قبلها لأن الله أراد ارتباط هذا الكلام بعضه ببعض.
وجيء في هذه الصفة بصيغة الجمع لأن المراد بـ: {الذي يكذب بالدين}: جنس المكذبين على أظهر الأقوال.
فإن كان المراد به معينًا على بعض تلك الأقوال المتقدمة كانت صيغة الجمع تذييلًا يشمله وغيره فإنه واحد من المتصفين بصفة ترك الصلاة، وصفة الرياء، وصفة منع الماعون.
وقوله: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} صفة {للمصلين} مقيِّدة لحكم الموصوف فإن الويل للمصلي الساهي عن صلاته لا للمصلي على الإطلاق.
فيكون قوله: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} ترشيحًا للتهكم الواقع في إطلاق وصف المصلين عليهم.
وعدي {ساهون} بحرف {عن} لإفادة أنهم تجاوزوا إقامة صلاتهم وتركوها ولا علاقة لهذه الآية بأحكام السهو في الصلاة.
وقوله: {الذين عن صلاتهم ساهون} يجوز أن يكون معناه الذين لا يؤدون الصلاة إلاّ رياء فإذا خلوا تركوا الصلاة.
ويجوز أن يكون معناه: الذين يصلون دون نية وإخلاص فهم في حالة الصلاة بمنزلة الساهي عما يفعل فيكون إطلاق {ساهون} تهكمًا كما قال تعالى: {يراءون الناس ولا يذكرون اللَّه إلا قليلًا في المنافقين} في سورة النساء (142).
و{يراءون} يقصدون أن يرى الناسُ أنهم على حال حسن وهم بخلافه ليتحدث الناس لهم بمحاسنَ ما هم بموصوفين بها، ولذلك كَثر أن تعطف السُّمعة على الرياء فيقال: رياء وسُمعة.
وهذا الفعل وارد في الكلام على صيغة المفاعلة ولم يسمع منه فعل مجرد لأنه يلازمه تكرير الإِراءة.
و{الماعون}: يطلق على الإِعانة بالمال، فالمعنى: يمنعون فضلهم أو يمنعون الصدقة على الفُقراء.
فقد كانت الصدقة واجبة في صدر الإِسلام بغير تعيين قبل مشروعية الزكاة.
وقال سعيد بن المسيب وابن شهاب: الماعون: المال بلسان قريش.
وروى أشهب عن مالك: الماعون: الزكاة، ويشهد له قول الراعي:
قوم على الإِسلام لمّا يمنعوا ** ماعونهم ويضيِّعوا التهليلا

لأنه أراد بالتهليل الصلاة فجمع بينها وبين الزكاة.
ويطلق على ما يستعان به على عمل البيت من آنية وآلات طبخ وشدّ وحفر ونحو ذلك مما لا خسارة على صاحبه في إعارته وإعطائه.
وعن عائشة: الماعون الماء والنار والملح، وهذا ذم لهم بمنتهى البخل، وهو الشح بما لا يزرئهم، وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {هم يراءون} لتقوية الحكم، أي تأكيده.
فأما على القول بأن السورة مدنية أو بأن هذه الآيات الثلاث مدنية يكون المراد بالمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون والصلاتت بعدها: المنافقين، فإطلاق المصلين عليهم بمعنى المتظاهرين بأنهم يصلون وهو من إطلاق الفعل على صورته كقوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة} [التوبة: 64] أي يظهرون أنهم يحذرون تنزيل سورة.
{ويمنعون الماعون} أي الصدقة أو الزكاة، قال تعالى في المنافقين: {ويقبضون أيديهم} [التوبة: 67] فلما عُرفوا بهذه الخلال كان مفاد فاء التفريع أن أولئك المتظاهرين بالصلاة وهم تاركوها في خاصتهم هم من جملة المكذبين بيوم الدين ويدُعُّون اليتيم ولا يحضّون على طعام المسكين.
وحكى هبة الله بن سَلاَمَة في كتاب (الناسخ والمنسوخ): أن هذه الآيات الثلاث نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول، أي فإطلاق صيغة الجمع عليه مراد بها واحد على حد قوله تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين} [الشعراء: 105] أي الرسول إليهم.
والسهو حقيقته: الذهول عن أمر سبق عِلمُه، وهو هنا مستعار للإِعراض والترك عن عمد استعارة تهكمية مثل قوله تعالى: {وتنسون ما تشركون} [الأنعام: 41] أي تعرضون عنهم، ومثله استعارة الغفلة للإعراض في قوله تعالى: {بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} في سورة الأعراف (136) وقوله تعالى: {والذين هم عن آياتنا غافلون} في سورة يونس (7)، وليس المقصود الوعيد على السهو الحقيقي عن الصلاة لأن حكم النسيان مرفوع على هذه الأمة، وذلك ينادي على أن وصفهم بالمصلين تهكم بهم بأنهم لا يصلون.
واعلم أنه إذا أراد الله إنزال شيء من القرآن ملحقًا بشيء قبله جعَل نظم الملحق مناسبًا لما هو متصل به، فتكون الفاء للتفريع.
وهذه نكتة لم يسبق لنا إظهارها فعليك بملاحظتها في كل ما ثبت أنه نزل من القرآن ملحقًا بشيء نزل قبله منه. اهـ.